مقالات

فائق العبودي يكتب:براغ.. حين يُغزل الحلم بحجارة التاريخ

هناك مدن تعبرها، وتمضي منها دون أثر، ومدن أخرى تعلق بك كما لو أنك تركت فيها قطعةً من روحك.
براغ ليست مدينة عابرة في ذاكرة المسافر؛ إنها سرديةٌ حية ترويها الأبراج القوطية، والأزقة المتعرجة، والجسور الحجرية التي تلامس الماء كأنها تصافح الزمن.
هذه المدينة التشيكية، القابعة على ضفاف نهر فلتافا، ليست مجرد محطة سفر؛ إنها قصيدة مفتوحة، يقرؤها من يهوى التجوال، ويفك رموزها من يعشق الغموض.

حين تخطو داخل براغ، تشعر أنك دخلت إلى مشهد من فيلم قديم بالأبيض والأسود. كل شيء يبدو كأنه ينتمي إلى أزمنة غابرة، شوارع مرصوفة بالحجارة، مصابيح كالشموع تلقي بوهج خافت على الأرصفة، وأبراج شاهقة تتحدث بلغة الماضي. إنها مدينة كأن الزمن توقف فيها، قبل أن يمتد إليها لون الحياة ببطء، فيحول الأبيض والأسود إلى لوحة تنبض بالألوان دون أن تفقد هيبتها القديمة.

براغ… مدينة المئة برج:
يطلقون عليها لقب “مدينة المئة برج”، لكن الحقيقة أكثر إسرافًا في الجمال؛ فأبراجها تفوق هذا الرقم بكثير، تلامس السماء كأنها أصابع حجرية تشير إلى أزمنة لم تغادر.
كل برج فيها علامة فارقة من زمن مضى. وأنت تتجول في شوارع المدينة القديمة، تشعر وكأنك تعيش مشهدًا من فيلم تاريخي، حيث التفاصيل تحافظ على صمت القرون الماضية.

هنا، في قلب الساحة، تقف الساعة الفلكية منذ القرن الخامس عشر كعجوز حكيم لا يزال يُعلن عن الوقت بطريقة مدهشة؛ حيث تدور الأقراص في تناغم غامض، وتخرج منها شخصيات متحركة لتحكي للمارّين حكايةً تختلط فيها الميثولوجيا والواقع. إنها صورة سريالية، كأنها لوحة توقفت عن الحركة في زمنٍ بعيد ثم أُعيد تلوينها بالحياة.

جسر تشارلز… معبر الأرواح والقصص:

في ساعات الفجر الأولى، عندما تكون المدينة نائمة، يبدو جسر تشارلز كأنه مشهد من عصر النهضة أُعيد ترميمه بلون حديث. هذا الجسر الحجري، الذي بدأ بناؤه عام 1357م بأمر من الملك تشارلز الرابع، ليس مجرد وسيلة للعبور بين ضفتي النهر. إنه متحف مفتوح، تصطف عليه التماثيل العتيقة للقديسين، كأنهم حرّاس الزمن.

تشعر عند عبوره بأنك تسير فوق طبقات من الحكايات المنسية. هناك، على حواف الجسر، تصطف تماثيل داكنة تشبه شخوصًا خرجت من فيلم قديم، تتأمل النهر بصمت، وكأنها تشهد على أسرار المدينة.

يقال إن أحجار الجسر نفسها تحمل لعنة خفية؛ إذ يعتقد بعض السكان أن أرواح الذين فقدوا حياتهم في النهر لا تزال تحوم حول الأعمدة الحجرية. حين تخطو فوقه، تلامس قدمك حجرًا من القرون الوسطى، وكأنك تعبر فوق زمن جامد أُعيد إليه اللون والحياة.

قلعة براغ… أسطورة تتحدى الزمن:
على تل مرتفع، تحتل قلعة براغ موقعًا يفرض سطوته على المدينة. تبدو القلعة كأنها مشهد من فيلم أبيض وأسود، تتسلل إليه ألوان خافتة من ضوء الغروب. إنها ليست مجرد حصن حجري؛ إنها ذاكرة حية لعصور متلاحقة من الحروب والملوك والمؤامرات.
كل زاوية فيها تحمل بصمة الزمن: في قاعة فلاديسلاف، حيث كان الملوك يُتوجون، تشعر وكأنك ترى الظلال تتحرك ببطء، وكأن الماضي لم يرحل تمامًا. وفي أرجاء القلعة، يمتزج الحاضر بالماضي كما يمتزج الأبيض والأسود بالألوان الباهتة في فيلم قديم يُعاد إحياءه.

كافكا وبراغ:
براغ ليست مجرد مدينة عاش فيها كافكا، بل هي المساحة التي شكلت عالمه الأدبي المليء بالقلق والاغتراب. وُلد كافكا عام 1883 في براغ، التي كانت حينها جزءًا من الإمبراطورية النمساوية-المجرية، وعاش معظم حياته هناك. تأثرت كتاباته كثيرًا بجو المدينة الكئيب وأجوائها البيروقراطية.

روايات لكافكامثل “المحاكمة” و”القلعة” تعكس الشعور بالغربة والضياع، وهو انعكاس واضح للطابع المزدوج لبراغ – بين الجمال الظاهري والكآبة الداخلية.

عاش كافكا كيهودي يتحدث الألمانية في مدينة يغلب عليها الطابع التشيكي، ما عمّق شعوره بالانفصال والازدواجية، وهو موضوع متكرر في أعماله.

الجواهري وبراغ… لقاء الشاعر بالمدينة:
في هذه المدينة، حيث يتجاور الحزن والجمال، وجد الشاعر محمد مهدي الجواهري رحمه الله، ملاذًا لروحه المتعبة. براغ لم تكن مجرد محطة عابرة في حياة هذا المنفي العراقي؛ بل كانت وطنًا بديلًا احتضن شاعرًا غريبًا عاش عمره يحلم بالعودة.
وفي مقهى سلافيا، الذي يطل على نهر فلتافا، جلس الجواهري لسنوات، يراقب الحياة تنساب أمامه كأنها مشهد بطيء من ماضٍ لا ينتهي. ما زال الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه محفوظًا بعناية، تحيط به هالة من الاحترام، وعلى الجدار صورة للشاعر وهو في لحظة تأمل، كأن روحه ما زالت تسكن المكان.

هنا كتب الجواهري قصائده التي تحمل وجع الغربة وأمل العودة. في هذا الركن، امتزج ألمه الشخصي بروح المدينة، كما يمتزج الأبيض والأسود بنعومة مع الألوان العتيقة لبراغ.

حي مالا سترانا… لوحة بوهيمية متمردة:

في حي مالا سترانا، تشعر وكأنك تعبر عالمًا ضائعًا عاد إلى الحياة بعد قرون. شوارعه المرصوفة بالحجارة الضيقة تشبه خلفية فيلم تاريخي، والجدران الباهتة المغطاة بدخان الزمن، تروي قصصًا لأزمنة مرت من هنا،مخترقتًا ذاكرة المدينة القديمة.

براغ الليلية… حين تستيقظ الأرواح:
في الليل، تتحول براغ إلى مدينة أشباح حية. عند برج البارود، الذي كان مدخل المدينة في العصور الوسطى، يبدو المكان وكأنه ممر بين زمنين.
يُقال إن أرواح الجنود القدامى ما زالت تجوب الأزقة. حين تنطفئ الأنوار، تتلاشى الألوان، ويعود كل شيء إلى ظلال رمادية، كأن المدينة تستعيد وجهها القديم كل ليلة.

في زيارتي الاخيرة لهذه المدينة، أكتشفت أن براغ ليست مجرد مدينة تزورها ثم ترحل؛ إنها ذاكرة مجسدة، كأنها لوحة قديمة أُعيد تلوينها بعناية. إنها مكان ترى فيه الماضي والحاضر يتجاوران دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
وحين تغادر براغ، ستشعر أنك لم تتركها تمامًا؛ فقد أخذت معك صورة مدينة تنتمي إلى زمن آخر، لكنها ما زالت تعيش… كأنها فيلم قديم بالأبيض والأسود لم تنتهِ فيه الحكايه

اعلان اسفل محتوى المقال

admin

الصحافة والإعلام..موقع عربي متخصص فى الثقافة والفنون والرياضة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock