مقالات

د. عبد السلام دخان يكتب:”لا أرض أخرى”.. أوسكار أفضل وثائقي طويل

في لحظة سينمائية مشحونة بالعواطف، خطف فيلم ” لا أرض أخرى”(No Other Land) الأنظار ليحقق جائزة الأوسكار (2025) لأفضل فيلم وثائقي طويل، ويجسد ثمرة تعاون فني في مساء الإثنين، وبين أضواء مسرح “دولبي” في هوليوود. وقف المخرج الفلسطيني من بلدية الخليل، باسل عدرا، إلى جانب الصحافي يوفال أبراهام، وسط هتافات التكريم والتقدير، ليحصد الجائزة في لحظة كانت بمثابة تتويج لرحلة فنية استثنائية بين الثقافات والهوية. يبرُز هذا التمازج الفني ثمرة تعاون بين المخرج الفلسطيني الباسل عدرا، الذي ينقل الألم من أعماق الذات، ونظيره الإسرائيلي يوفال أبراهام، الذي يكشف طبقات الواقع المُغلفة بالصمت. و يتجاوز فيلم “لا أرض أخرى” حدود السرد التقليدي ليصير مرآة تعكس جراحا إنسانية، و لا يكتفي العمل بتوثيق الواقع، بل يغوص في ثناياه وكأن الكاميرا إبرة تنسج خيوط سرديات الأرض، مُشكلة لوحة مرئية تلامس الروح.
تتحول الكاميرا السينمائية إلى عين كونية تسرد بصريا آلام الإنسان الفلسطيني ومعاناته اليومية وما يتعرض له من تنكيل، تُصغي الكاميرا لهمْس الجدران المُتشظية، وتُترجِم صرخات المظلومين، وتُجسد التناقضات الإنسانية عبر مشاهد تذوب فيها الدموع في تراب الأرض.
لا يروي الفيلم حكاية مُعلبة، بل يفتح مجالا لتأويل الهوية سينمائيا، عبر كاميرا تتحرك بين مشاهد بالأبيض والأسود وأخرى بألوان باهتة لتجسد استعارات بصرية لمأساة لا تُشاهد فقط، بل بل تُعاش على نحو تراجيدي. هذا الابدال تساهم فيه كل مكونات الفيلم الوثائقي، حيث تحفر الإضاءة المُعتمة واللقطات الممتدة في أغوار الذاكرة الجماعية، بينما ينسج المونتاج خيوطا خفية يقطعها ويوصلها ليخلق إيقاعا لأنفاس فلسطينية. تنبثق أسئلة الفيلم الوثائقي من تقاطعات الصور، كما في المشهد الذي يلتقي فيه نظرة طفل فلسطيني بابتسامة امرأة إسرائيلية، في لحظة تذوب فيها الحدود لتكشف عن الهوية الإنسانية المفقودة. لا يسعى هذا الفيلم الوثائقي- في تقديري- إلى الفوز بجائزة فحسب، بل يرسخ قناعة بأن السينما قادرة على تحويل الدم إلى هوية سائلة، حيث تبدو كل لقطة وكأنها صفحة من مذكرات إنسانية تنبض بالحياة.
فيلم «لا أرض أخرى» ليس فقط سردا بصريا، بل وثيقة فنية تنبض بالحياة، تُذكرنا أن السينما قد تفوق السلاح فتكا حين تحول المأساة إلى مشهدية تراجيدية، ورسالة بصرية مؤثرة خالية من مكر الخطابة. الأرض الفلسطينية ليست مجرد مسرحا لسلسلة الأحداث، بل شخصية فاعلة مساهمة في تطور الحبكة السينمائية، رغم الطبيعة الصارمة المحددة لهوية الفيلم الوثائقي. ومرة أخرى تُثبت السينما أنها ليست هروبا من الواقع، بل مرآة بصرية تكشف حركية الكائن، وتُلقي السؤال الأبدي: من يمتلك حق رواية التاريخ؟
اعلان اسفل محتوى المقال

admin

الصحافة والإعلام..موقع عربي متخصص فى الثقافة والفنون والرياضة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock