فائق العبودي يكتب:”مدينة لوزان السويسرية: حين تتحدث الطبيعة بلغة الفن والتاريخ”.

في قلب القارة الأوروبية، تتكئ لوزان على ضفاف بحيرة الليموه كتحفة فنية أبدعتها الطبيعة وصقلها التاريخ. هذه المدينة السويسرية ليست مجرد وجهة سياحية عادية؛ بل هي لوحة تمتزج فيها الجبال الشامخة بالمياه الهادئة، وتتداخل فيها أصداء الماضي مع نبض الحياة العصرية.اود أن اصحبكم، في رحلة خيالية بين أروقة لوزان الحبيبة، حيث تتحول الأماكن إلى قصص، وتُروى الحكايات عبر الأحجار العتيقة والممرات الملتوية للمدينة.

* لوزان… مدينة تطل على ضفتين من الحلم:
للوهلة الأولى، يبدو الأفق في لوزان وكأنه جزء من خيال شاعر. “بحيرة الليموه” تمتد أمامك كمرآة ضخمة تعكس حكايات البحارة القدماء، بينما تتعانق قمم جبال الألب مع السماء كأنها أوتاد تُثبت هذا الجمال في الأرض.

عند شروق الشمس، تسبح المدينة في ضوء ذهبي خافت، فتتحول شوارعها إلى مزيج بين الواقع والخيال. أما عند المغيب، فتنسكب الألوان الدافئة على المياه، وكأن المدينة بأسرها تتهيأ لقصيدة مسائية تُنشدها الرياح القادمة من الجبال.

* المدينة القديمة: حيث ينطق الحجر بتاريخ لا يموت:
حين تطأ قدمك المدينة القديمة في لوزان، تشعر أنك تعود قرونًا إلى الوراء. الأزقة المرصوفة بالحجارة ليست مجرد طرقات، بل هي صفحات مفتوحة تحكي عن العصور الوسطى والأسواق الصاخبة وصوت الحرفيين الذي ما زال يتردد في الأرجاء.

السلالم الخشبيةفي وسط المدينة… حين تتحول الطرق إلى قصائد عمودية:

لعلّ من أغرب ما يميّز لوزان هو تلك السلالم الخشبية القديمة التي تربط بين أجزائها المرتفعة والمنخفضة. لا تُعتبر مجرد وسيلة للتنقل، بل هي رمز للمدينة التي لا تعرف الاستسلام.

على هذه السلالم، يلتقي التاريخ بالحاضر؛ حيث كان التجار قديمًا يصعدونها حاملين بضائعهم، بينما اليوم يسير عليها الفنانون والحالمون وهم يرسمون في أذهانهم صورًا لم تُخلق بعد.

* كاتدرائية لوزان:(La Cathédrale de Lausanne) تُعد واحدة من أعظم التحف المعمارية في أوروبا،

تلك الجوهرة القوطية، تقف شامخةً، وكأنها حارسة الزمن. وبين أعمدتها العالية ونوافذها الزجاجية الملوّنة، تتراقص حكايات الملوك والرهبان.

هي معلمٌ بارز في قلب المدينة القديمة. بدأ العمل على تشييد الكاتدرائية في القرن الثاني عشر، وتحديدًا في عام 1170م، واستغرق بناؤها ما يقرب من 100 عام حتى اكتمل رسميًا في 1275م. وقد تم تدشينها بحضور البابا غريغوري العاشر والإمبراطور الروماني رودولف الأول، مما يؤكد أهميتها الروحية والسياسية في ذلك الوقت.

تتميز الكاتدرائية بطرازها القوطي المذهل، مع أبراجها الشاهقة ونوافذها الزجاجية الملوّنة التي تعود للقرون الوسطى. أكثر ما يجذب الأنظار هو نافذة الوردية الشهيرة التي يبلغ قطرها 8 أمتار، وتُعتبر واحدة من أروع الأمثلة على فن الزجاج الملوّن في أوروبا.

في الداخل، يمتد الصحن الكبير بطول 99 مترًا، وتعلو الأعمدة الحجرية الضخمة التي تعكس براعة البنّائين في العصور الوسطى. وقد خضعت الكاتدرائية لعدة عمليات ترميم، أبرزها في القرن التاسع عشر بقيادة المهندس الفرنسي الشهير يوجين فيوليه لو دوك.

* المنادي الليلي: طقس لم يُلغِه الزمن

من أغرب العادات المرتبطة بالكاتدرائية هو استمرار وظيفة “المنادي الليلي” حتى يومنا هذا. منذ عام 1405م وحتى اليوم، يصعد المنادي كل ليلة إلى قمة البرج (ارتفاعه 75 مترًا) ليعلن الوقت للسكان.

بين الساعة 10 مساءً و2 صباحًا، ينادي بصوته الجهوري:
“الساعة الآن كذا… وكل شيء على ما يُرام!”

تعود جذور هذا التقليد إلى العصور الوسطى عندما كان المنادي يُحذّر السكان من الحرائق أو اللصوص. رغم وجود الساعات الحديثة، لا تزال المدينة تحافظ على هذا الطقس كجزء من تراثها الحي.

* جسر “الانتحار”… حيث يلتقي الجمال بالحزن
على مقربة من الكاتدرائية، يمتد “جسر الانتحار” (Le Pont Bessières)، الذي يربط بين الجزء العلوي من المدينة ومنطقة الكاتدرائية. تم تشييد الجسر بين عامي 1908 و1910م، ويُعد من أبرز الجسور الخرسانية في سويسرا بطوله البالغ 120 مترًا وارتفاعه 27 مترًا فوق وادي فلون.

لكن خلف هذه الهندسة المهيبة، يخفي الجسر جانبًا مظلمًا؛ فقد اكتسب شهرة حزينة بكونه “جسر الانتحار”. منذ افتتاحه، أصبح موقعًا معروفًا لحالات الانتحار المأساوية، وخصوصًا في الايام الاخيرة من كل سنة. وقد دفع ذلك السلطات المحلية إلى تركيب حواجز زجاجية وإطلاق برامج دعم نفسي للحد من هذه الظاهرة.

اللافت أن الجسر يُوفر إطلالة بانورامية ساحرة على جبال الألب وبحيرة الليموه، ويزوره الكثيرون لالتقاط الصور والاستمتاع بجمال المدينة رغم قصصه الحزينة.

الطريف هنا، عندما زارنا الصديق “أمجد المياحي” القادم من البصرة الفيحاء، ذلك الرجل الذي يحمل همومه وكأنها حقيبة سفر ،قررت أن أريه معالم المدينة. وكأي مضيف كريم، أخذته إلى أشهر المعالم السياحية… جسر الانتحار!

طبعا، لم أبخل عليه بالنصائح الذهبية، فأخبرته أن الانتحار قبل انتهاء مدة الفيزا حل عملي وسريع لتجنب متاعب العودة الى أرض الوطن. وحتى اتذكر انني شجعته أكثر، وعدته بإخراج فيلم وثائقي يُخلِّد لحظة قفزه التاريخية. لكن الغريب بل المخيب – أنه رفض العرض بكل عناد!

لليوم، ما زلت محتارًا… ما الذي منعه بالضبط؟ هل خاف من الارتفاع؟ أم أن فكرة الخلود السينمائي لم تغره بما يكفي؟!
سأحاول معه في زيارته القادمة، ربما يكون أكثر استعداداً.

* بحيرة الليموه: صفحة الماء التي يكتب عليها العابرون أحلامهم:
للبحيرة في لوزان قصصها الخاصة. فهي ليست مجرد امتداد مائي، بل مساحة سحرية يتلاقى فيها العشاق، ويهيم الحالمون، ويفرّ إليها الباحثون عن صفاء الروح. على ضفافها، تتناثر القرى الصغيرة، حيث الطبيعة الخلابة والمزارع التي تفوح برائحة الكروم، بينما تُبحر القوارب القديمة كأنها رسائل أرسلها الماضي إلى الحاضر.

وفي ساعات الصباح الباكر، يخيّم الضباب كوشاح شفيف، فتبدو البحيرة وكأنها لوحة انطباعية لم تكتمل. أما في المساء، فالمياه تعكس أضواء المدينة، كأنها سماء ثانية تسبح تحت قدميك.

* “ميناءأوشي”: حيث يُعانق الجمال هدوء الأرواح:
عند أطراف لوزان، يُطلّ حي “أوشي” كمرفأ هادئ للعابرين والمقيمين. هنا، حيث الهدوء والسكينة، تتناثر المقاهي الصغيرة التي يختلط فيها صوت الموسيقى بأحاديث البحارة.
في الجانب الاخر من البحيرة، مدينة إيفون الفرنسية، وسلسلة جبال الألب، المغطاة بالثلوج كأنها حبات لؤلؤ متناثرة، تلمع برّاقتها عندما تعانقها خيوط الشمس عند القمم.
يقال إن الروائي الشهير لورد بايرون كان يتردد على هذا حي أوشي، مستلهمًا سحر البحيرة وهدوءها في كتاباته. حتى اليوم، ما زال زوار لوزان يقصدون أوشي للبحث عن تلك اللحظة النادرة التي يتوقف فيها الزمن، ويصبح الحلم أكثر واقعية من الحقيقة.

وللحقيقة انا مفتون بهذه المدينة، ببساطة، لوزان ليست مجرد مدينة، بل هي قصيدة مكتوبة بحروف الطبيعة وإيقاع التاريخ. إنها المكان الذي يُلهم الشعراء، ويأسر القلوب، ويمنح الزائر شعورًا بأنه يعيش في عالم آخر أكثر هدوءًا، وأكثر جمالًا.

وفي كل زاوية منها، ستجد حكاية تنتظرك لترويها… إذا أصغيت جيدًا لصوت الحجر والماء والريح.
اليوم أشعر بالفخر لكوني ابن هذه المدينة، وازدادت سعادتي بأن إحدى لوحاتي أصبحت جزءًا من الكنز الثقافي لمدينة لوزان، حيث ستظل خالدة ما دامت لوزان قائمة.

Exit mobile version