د. عبد السلام دخان يكتب: تَرَاجِيدْيَا الفقْدَانِ: الوُجُودُ عَلَى حَافَةِ العَدَمِ

كُنَّا نعتقدُ في طفولتنا أنَّ الجسدَ لا يُهزَم، وأنَّ الموتَ لن يقتربَ مِنَّا أو مِمَّنْ نُحِب. كُنَّا نَرى موتَ الآخرين حَدثا بعيدا، لا نستطيعُ فهمَ ماهيَّتِه. لم نُدرِكْ أنَّ الحقيقةَ نفسَها كانت وَهْما نَصْنَعُهُ لِنَحْمِيَ أنفُسَنَا من فِكْرَةِ الفَنَاءِ. لكن حينَ يَضْرِبُ الموتُ فجأةً، ويَأْخُذُ شخصا عزيزا، يَنْكَسِرُ عَالَمُنَا. نُدْرِكُ فَجْأةً أنَّ لا أَحَدَ مُحَصَّنٌ، وأنَّ كُلَّ مَا نَعْرِفُهُ عن الحياةِ كانَ قِشْرَةً رَقِيقَةً تَخْفِي تَحْتَهَا هَشَاشَتَهَا.
الغيابُ لَيْسَ فَرَاغا في المكانِ، بَلْ زِلْزَالا يَهُزُّ كِيَانَنَا. مَنْ نَفْقِدْهُ يَسْحَبُ مَعَهُ جُزْءا مِنْ تَارِيخِنَا، وَيَتْرُكُنَا نَحْمِلُ عِبْءَ وُجُودٍ بِلا مَعْنى. تَصْبِحُ الحَيَاةُ رِحْلَةً في صَحْرَاء قَاسِيَةٍ، كُلُّ خُطْوَةٍ تُذَكِّرُنَا بِأَنَّنَا أَصْبَحْنَا غُرَبَاءَ في عَالَمٍ كانَ يَوْمًا مَأْلُوفا. الأَلَمُ لَيْسَ مَجَرَّدَ حُزْنٍ عَابِرٍ، بَلِ انْقِسَامٌ في الذَّاتِ: كَيْفَ تَسْتَمِرُّ في العَيْشِ بَعْدَ أَنْ فَقَدْتَ سَبَبا لِلْوُجُودِ؟
تَصْبِحُ الذَّاكِرَةُ الجِسْرَ الوَحِيدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَنْ فَقَدْنَاهُمْ. نُحَاوِلُ عُبُورَ هَذَا الجِسْرِ حَامِلِينَ شَظَايَا المَاضِي، وَنَخْدَعُ أَنْفُسَنَا بِأَنَّ الغِيَابَ مَجَرَّد حُزْنٍ عَابِرٍ. لَكِنَّ القَلْبَ يَعْرِفُ أَنَّ الرُّوحَ لَا تَلْتَئِمُ؛ كُل ذِكْرَى تُجَدِّدُ الجُرْحَ. بَيْدَ أَنَّ المَأْسَاةَ الحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ في فِقْدَانِ الآخَرِ، بَلْ في اضْطِرَارِنَا إلى أخد جُرعَات النسيَان. لَكِنْ كَيْفَ نَتَذَوَّقُ عَذُوبَةَ الحَيَاةِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ أَنَّهَا وَعْدٌ كَاذِبٌ، وَأَنَّنَا رُحَلَاءُ في أَرْضِ العُبُورِ؟

رُبَّمَا الفقْدَانُ مِفْتَاحٌ لِفَهْمِ تَرَاجِيدِيَّةِ الحَيَاةِ، وَاكْتِشَافِ خِفَّتِهَا بِقَدْرِ ثِقَلِهَا. عَلَى نَحْوٍ مُؤْلِمٍ لَا نَخْسَرُ الآخَرِينَ فَحَسْبُ، بَلْ نَخْسَرُ أَنْفُسَنَا مَعَ كُلِّ رَحِيلٍ. وَالأَلَمُ لَيْسَ مَرَضا نَتَعَافَى مِنْهُ؛ الحُبُّ الحَقِيقِيُّ لَا يَشِيخُ، وَأَثَرُ الأَحِبَّةِ لَا يَنْمَحِي. المَوْتُ لَيْسَ القَاتِلَ الحَقِيقِيَّ، بَل الحَيَاةُ نَفْسُهَا الَّتِي تُجْبِرُنَا عَلَى مُوَاجَهَةِ حَقِيقَةٍ أَنَّنَا كَائِنَاتٌ هَشَّةٌ، كُلَّمَا أَحْبَبْنَا بِعُمْقٍ، صَارَ الفِرَاقُ جُرْحا مُضَاعَفا يُذَكِّرُنَا بِأَنَّنَا عَابِرُونَ، وَالحَيَاةُ خَرِيفٌ يُنَازِعُ الخُلُودَ.

Exit mobile version